سورة الإسراء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن وجوه منكرة للمشركين، الذين أعماهم الضلال، وأصمهم الكبر، فلم يروا ما يشع من آيات اللّه من أضواء، ولم يستمعوا إلى ما تحمل إليهم من هدى، بل جعلوا يهزءون ويسخرون برسول اللّه، وبكلمات اللّه، ويجيئون إلى الرسول الكريم يتحدّونه بتلك المقترحات التي يقترحونها عليه، وبتلك الأسئلة المتعنتة التي يسألونه إياها- فناسب أن يجىء قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ} ليكشف عن طبيعة هؤلاء المشركين، وأنهم ممن لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم، وأنهم لو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم.
فهؤلاء المشركون هم ممن حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار، وأنهم إن يدعوا إلى الهدى فلن يسمعوا، ولن يهتدوا أبدا.
هكذا كانت مشيئة للّه في هؤلاء الضالين المشركين، ولن يردّ عنهم مشيئة اللّه، ولىّ ولا نصير. وإذن فإنهم سيموتون على ما هم عليه من كفر وضلال، فإذا حشروا يوم القيامة، سحبوا على وجوههم إلى جهنم، وجرّوا إليها جرّا، كما يقول سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [48: القمر] وفى سحبهم على وجوههم إذلال لهم وامتهان لإنسانيتهم، وقد كانت هذه الوجوه تلبس ألوانا من الكبر، والصّعر، والتعالي على العباد.
وفى قوله تعالى: {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا} إشارة إلى ما يحيط بهم من هول، وما ينزل بهم من كرب، حتى لتذهب حواسّهم، وتتعطل جوارحهم.
فلا يبصرون، ولا يتكلمون، ولا يسمعون.
وقوله تعالى: {مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم، ومستقرّهم.
وقوله تعالى: {كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} أي كلّما أخذت هذه النار في الخمود، وخفّ عليهم سعيرها، زادت اشتعالا وسعيرا، وذلك مما يضاعف في آلامهم، ويزيد من عذابهم، حيث تتغاير بهم أحوال العذاب، فيتقلبون بين اليأس والرجاء، وبين الموت والحياة.. وذلك هو العذاب في أقسى صوره، وآلمها.. على خلاف ما لو كان العذاب الواقع بهم على حال واحدة، ولو كان بالغا غاية الشدة، فإنه بعد فترة من الزمن يصبح شيئا رتيبا، يجرى على وتيرة واحدة، أشبه بالمألوف المعتاد من مرّ الأمور وحلوها.
قوله تعالى: {ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً}.
هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ هؤلاء الضالّون بما أخذوا به، من عذاب ونكال.. إنهم كفروا بآيات اللّه، وبرسول اللّه، وبما دعاهم إليه من الإيمان باللّه، وباليوم الآخر.. ولم يقع في تصورهم أنهم يبعثون بعد الموت، وشكّوا في قدرة اللّه أن يعيد إليهم الحياة بعد أن يموتوا ويصبحوا عظاما نخرة، ورفاتا ضائعا في التراب.
والاستفهام هنا إنكارى، حيث ينكر المشركون البعث، ويقولون {إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [29: الأنعام].. بل إنهم ليقسمون على هذا قسما مؤكدا حتى يقطعوا على أنفسهم طريق النظر في هذا الأمر أو التفكير فيه.. {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [38: النحل].
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً}.
هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يكذبون بالبعث، ويقولون منكرين:
{أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً}.
فلو أنهم كانوا على شيء من الإدراك السليم، لرأوا في قدرة اللّه سبحانه وتعالى ما ينزهها عن العجز.. فهى قدرة قادرة على كلّ شىء.. ولو لحقها العجز عن شيء ما لما كانت من صفات الكمال الواجبة للّه.
فهذا الوجود كله في سمائه وأرضه، هو بعض صنعة هذه القدرة.. وتلك القدرة التي أوجدت السموات والأرض ومن فيهن، قادرة على أن تخلق مثل ما خلقت.. فالخلق الثاني أهون من الخلق الأول، الذي جاء على غير مثال.
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [27: الروم].
وبالتالى فإن خلق الناس من جديد، وهم بعض هذا الوجود، هو بالقياس إلى الطبيعة البشرية- أهون- من خلق السموات والأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [57: غافر].
وفى قوله تعالى: {قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} مبالغة في الرد على المشركين المنكرين للبعث.. فالناس لا يخلقون خلقا عند بعثهم من الموت، وإنما البعث إعادة لما كانوا عليه.. ولكن جاء التعبير القرآنى بلفظ الخلق ردّا على قول المشركين: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً}؟
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ}.
الفعل معطوف على قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الذي يراد به الماضي، بمعنى لقد رأوا، وإن كانت هذه الرؤية لم ترفع عن أبصارهم هذا الضلال الذي هم فيه.. والمراد بالأجل، هو الأجل الموقوت للبعث والقيامة، وهو آت لا ريب فيه.. كما يقول سبحانه: {وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [104: هود].
وفى قوله تعالى: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً} وفى ذكر الظالمين باللفظ الظاهر بدلا من الضمير، الذي يقتضيه السياق- في هذا ما يكشف عن حقيقتهم، وأنهم موصوفون بالظلم، لبعدهم عن الحق، ومكابرتهم في الحقائق المسلّمة، وافترائهم على اللّه الكذب.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [7: الصف].
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً}.
القتور. البخيل، البالغ الغاية في البخل، والإقتار: ضد الإسراف، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} [67: الفرقان].
وضمير الخطاب: موجه إلى هؤلاء المشركين، الذين أشار إليهم قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}.
وفى العدول عن الغيبة إلى الخطاب، ليواجه المشركون بهذا الاتهام، وليكونوا هم وحدهم الممثلين للإنسانية في هذه الصفة الذميمة، صفة البخل، الذي ينضح عن طبع جاف، غليظ، مستبدّ.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت فيما ذكرت عن المشركين، أنهم أعنتوا النبىّ وأبوا أن يستجيبوا له، ولم يكن ذلك منهم عن جهل بهذه المعجزة الكبرى التي جاءهم بها النبىّ، فهم أعلم الناس بالقرآن، وأنه فوق أن يأتى البشر بسورة من مثله، ولكن آفتهم التي ذهبت بهم مذاهب الضلال بين يدى هذا الصبح المشرق المبين، هى أن الذي جاءهم بهذه المعجزة، بشر مثلهم.. فكيف يكون لإنسان مثلهم أن يستأثر بهذا الفضل، ويستولى على هذا السلطان؟- فناسب ذلك أن يجىء قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً} وفى هذا ما يكشف عن الطبيعة الكامنة فيهم، بل الطبيعة الغالبة على الناس جميعا، وهى حسد الناس بعضهم لبعض، لما ركّب فيهم من أثرة وحبّ للذات!
فلو أن إنسانا ملك الدنيا كلها بين يديه لاستحوز عليها لنفسه، ولأبى أن يشاركه أحد فيما ملك.. وأكثر من هذا.. فإنه لو أن إنسانا من الناس ملك خزائن رحمة اللّه التي لا تنفد أبدا على الإنفاق منها، لما أعطى أحدا منها شيئا.
لا لشىء، إلا لأنه يريد بهذا أن يكون السّيد المفرد بين الناس! فالإنسان يرى أخاه الإنسان منافسا خطيرا له، وفى مجال هذا التنافس يقوم، بين الناس والناس التحاسد، حتى ليتمنّى بعضهم لبعض الفقر والحاجة! على حين أن الإنسان لا ينفس على المخلوقات الأخرى ما حباها اللّه به من قوة أو سلطان أو جمال! وقد قيل: {لا كرامة لنبىّ في وطنه}.
وللّه درّ المعرّى إذ يقول:
أولو الفضل في أوطانهم غرباء *** تشذّ وتنأى عنهم القرباء
ومن هنا كانت العداوة أشدّ بين الناس كلّما تشاكلت أحوالهم، وتقاربت ديارهم!- ففى قوله تعالى: {لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} كلام محذوف، تقديره:
لأمسكتم خشية أن تنفقوا فتتسع أرزاق الناس، ويكثر الخير في يدهم، وفى هذا ما يفوت عليكم مقام التفرّد، والاستعلاء على الناس!- وقوله تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً} هو حكم عام على الناس في جملتهم، وأنهم يمسكون أيديهم عن الإنفاق، ولو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا، ليحقّق ذاته، ويفردها بين الناس بما جمع من كنوز الدنيا.
والرسول الكريم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لمنّى ثالثا!!».
وإنه ليس به من حاجة إلى هذا الثالث، بل إنه ليكيه القليل مما ضمّ عليه أحد الواديين.. ولكنه كما قلنا- الأثرة وحبّ الذات!


{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت المشركين، وموقفهم من النبىّ إذ جاءهم بالمعجزة القاهرة، البادية لهم في كلمات اللّه، فأبوا أن يستمعوا لها، ووقفوا من النبىّ الكريم موقف التحدّى، يطالبونه بآيات مادّية محسوسة.. فناسب ذلك أن يذكّروا بهذا المشهد من الحياة الماضية، الذي أعاد التاريخ سيرته فيهم، فكانوا صورة مكررة له.
فهذه آيات مادية محسوسة.. ليست واحدة، ولكنها تسع آيات بيّنات، قد جاء بها موسى إلى فرعون، وعرضها عليه، واحدة واحدة، وكل واحدة منها تحدّث بلسان مبين أنها من عند اللّه، إذ كانت معجزة محسوسة لا ينكرها إنسان له عين يبصر بها.
فماذا كان من فرعون إزاءها؟ لقد أنكرها، وكفر بها، وازداد معها بغيا وعدوانا. وقال في موسى تلك القولة التي يقولها المشركون في محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.. {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً}.
فبين هؤلاء المشركين من قريش، وبين فرعون نسب قريب، يجمعهما فيه، الجبروت والطغيان، واستغلاق القلوب، وظلام النفس، وضلال الرأى.
وهذه المقترحات التي يقترحها مشركو قريش على النبىّ، قد جاء بمثلها نبىّ من أنبياء اللّه إلى {فرعون} فلم يجد فيها مقنعا، ولم ير إلا أنها كيد من كيد موسى، وسحر من سحره.. ولو جاء النبىّ إلى هؤلاء المشركين بتلك الآيات، أو ما يماثلها، أو يزيد عليها، لما تغير موقفهم من النبي، بل لزادهم ذلك ضلالا إلى ضلال، وفتنة إلى فتنة.
والآيات التسع التي قدّمها موسى بين يدى فرعون.. هى: العصا التي يلقيها فإذا هى ثعبان مبين، ويده التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء.
فهاتان آيتان.
ثم ما أخذ اللّه به فرعون وقومه على يد موسى من السّنين، وهى سنوات من القحط والجدب، حيث كان النيل يجفّ.. ثم مارماهم اللّه به من الآفات المهلكة التي أتت على الزروع والثمار، بعد أن أينعت وأثمرت!.. فهاتان آيتان.. كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [130: الأعراف].
ثم ما سلّط اللّه سبحانه وتعالى على فرعون وقومه من الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم.. كما يقول سبحانه: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ} [133: الأعراف] وهذه خمس آيات.. وقد شرحنا هذا في سورة الأعراف.
وفى قوله تعالى: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً}.
دعوة إلى بنى إسرائيل، ليشهدوا على هذا الذي يقوله القرآن الكريم، فيما يقصّ من خبر موسى وفرعون.
وفى دعوة بنى إسرائيل إلى الشهادة هنا، فضح لهم، ولماهم عليه من ضلال.. إذ أنهم يعلمون منذ اليوم الأول للرسالة الإسلامية، أن رسولها مبعوث من عند اللّه، وأن ما بين يديه من قرآن، هو كلمات اللّه.. وقد كان الواجب يقتضيهم- ديانه وخلقا- أن يؤازروا النبىّ، وأن يؤيدوه في دعوته، وأن يؤدّوا الشهادة في النبىّ على وجهها، إذا هم سئلوا من قريش.. لا أن يكونوا قوة مستترة وراء المشركين، يمدونهم بكلمات الزور والضلال، ويلقون بها بين يدى الدعوة الإسلامية.. حيث كان اليهود عند المشركين موضع ثقة فيما يتصل بالرسل والرسالات، لأنهم أهل كتاب. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من تلك المواقف اللئيمة التي كان يقفها اليهود من النبىّ ومن رسالته.
كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [51: النساء].
قوله تعالى: {قالَ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً}.
البصائر: جمع بصيرة، وهى القوة العاقلة في الإنسان، التي تكشف له الأمور، وتربه عواقبها.
والمثبور: الهالك.. وهو من الثبور، أي الهلاك.
وفى قول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ} إشارة إلى أن هذه الآيات التي رآها فرعون، من شأنها أن تقيم في كيان من يراها، علما محققا، ويقينا راسخا بأنها من عند اللّه.. فهى آيات ناطقة، لا تحتاج إلى أكثر من إنسان، له ما في الإنسان من سمع وبصر وعقل، إذا هو التقى بها، ونظر فيها، أرته من وجهها ما يشهد بأنها من عند اللّه، وأن الرسول الذي جاء بها، إنما هو رسول اللّه! وإذن، فمن شأن فرعون- إن لم يكن قد علم- أن يعلم أن هذه الآيات إنما نزلت من عند اللّه، وأن موسى ليس إلا حاملا لها، ومبلغا إياها..! وهو ما يشير إليه قول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
أي إنك لتعلم هذا، ولكن العناد والكبر، يأخذان عليك الطريق إلى الإقرار بالحق، والإذعان له.
وفى الإشارة إلى الآيات بإشارة العقلاء {هؤلاء} ما يدل على أنهن آيات تنطق بلسان مبين، وتحدّث عن نفسها، وتبين عن حقيقتها، حتى لكأنها ذات عقل يدرك، ولسان ينطق.
وفى قول موسى لفرعون: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ردّ على قول فرعون له: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً}.
والظن هنا بمعنى اليقين، سواء ظن فرعون، أو ظن موسى.. ففرعون يقول عن يقين قائم على جهل وعناد، وموسى يقول عن يقين، يشهد به واقع الحال، ويدلّ عليه ما ركب فرعون من كبر وعناد! قوله تعالى: {فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً}.
الاستفزاز: الإفزاع، والإزعاج.
وإرادة فرعون، هى همّه، وتأهبه.. أي أنه عند ما رأى فرعون ما رأى من معجزات، وأبى أن يؤمن بها، وأعجزته الحيلة عن أن يتحدّى تلك المعجزات- أراد أن ينتقم من بنى إسرائيل، الذين جاء موسى ليخّلصهم من يده، ويخرج بهم من مصر، وذلك بأن يبطش بهم، ويقضى عليهم قضاء مبرما، حتى لا يكون لموسى موقف معه بعد أن يصبح أو يمسى فلا يجد لبنى إسرائيل أثرا، ولكن مكر اللّه به كان أسرع، فساقه هو وجنوده إلى البحر، حيث هلك وهلك كل من ركب البحر وراء بنى إسرائيل معه.
قوله تعالى: {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً}.
اختلف المفسرون في المراد من {الأرض} التي دعى بنو إسرائيل إلى سكناها.. وأكثر الآراء على أنها الأرض المقدسة التي أشار إليها قوله تعالى على لسان موسى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [21: المائدة].
كذلك اختلف المفسرون في المراد بوعد الآخرة: في قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} ويكاد يكون إجماعهم على أنه يوم القيامة.
والرأى الذي نميل إليه، أن المراد بالأرض، هو مطلق الأرض.. وهذا يعنى أن يتبعثر بنو إسرائيل في وجوه الأرض كلها، وأن يتناثروا في أقطارها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} [168:
الأعراف].. وقد قطّعوا أمما، وتناثروا في آفاق الأرض كلها.
وعلى هذا يكون المراد بوعد الآخرة هنا، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [7: الإسراء].
ويكون معنى الآية: أن اللّه سبحانه وتعالى قد حكم على بنى إسرائيل بأن يتقلبوا في هذه الأرض، فيجتمعوا ويتفرقوا، فإذا اجتمعوا وقامت لهم دولة وسلطان، فسدوا وأفسدوا، فيسلط اللّه سبحانه وتعالى عليهم من يضربهم بيد البلاء، فيشتت شملهم، ويمزّق جمعهم.. وأن هذا الجمع والتفرق سيقع منهم مرتين.. أما المرة الأولى، فهى تجربة لهم، فإذا كانت الثانية، وعادوا إلى ما كانوا عليه في المرة الأولى، ضربهم اللّه سبحانه وتعالى الضربة القاضية، التي لا قيام لهم بعدها.. وهذا يعنى أنه إذا جاء وعد المرة الآخرة، جاء بهم اللّه سبحانه وتعالى {لَفِيفاً} أي من شتّى بقاع الأرض، وعندئذ تقوم لهم دولة، ولكنها دولة تحمل في كيانها عوامل هدمها، كما تقوم عليه هذه الدولة الآن، من بغى، وعدوان وعندئذ تحقّ عليها كلمة اللّه.. {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
وأصل اللفيف من اللّفّ، وهو لفّ الشيء في الشيء، وإخفاؤه فيه.. ومنه الشجر الملتفّ، وهو الذي تشابكت أغصانه، فأطبقت على ما تعلوه من أرض، حتى لا يكاد ينفذ إليها شيء من خارج.
وهذا يعنى أن مجىء بنى إسرائيل إلى وعد الآخرة، إنما يكون من حيث تاهوا وضلوا في وجوه الأرض، ولم يكن له وضع ظاهر فيها.
وقد أشرنا إلى هذا في أول السورة، في مبحث خاص.


{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً}.
الضمير في أنزلناه، يعود إلى القرآن الكريم، وليس هناك مذكور يعود إليه هذا الضمير، وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام القرآن، وأنه أظهر وأشهر من أن يذكر للدلالة عليه.. فإذا ذكر الحقّ الذي نزل من السماء، واستقرّ حقّا قائما في هذه الأرض، مصاحبا للناس- كان ذلك معنيّا به القرآن الكريم وحده، دون سواه.
وهنا سؤال:
كيف يكون ذلك الوصف خاصّا بالقرآن الكريم وحده، مع أن الكتب السماوية كلّها إنما نزلت بالحقّ، لأنها من عند اللّه؟
والجواب على هذا، هو أن هذه الكتب، وإن تكن قد أنزلها اللّه سبحانه وتعالى، بالحقّ، كما أنزل القرآن.. إلا أنها حين اتصلت بالنّاس، عبثوا بها، وغيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي نزلت به.
أما القرآن الكريم، فقد أنزله اللّه سبحانه وتعالى بالحق، وأنه سبحانه تولّى حفظ هذا الحقّ الذي نزل به، فلم تبدّل آياته، ولم تحرّف كلماته.. وهذا هو بعض السرّ في قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}.
أي ملازما للحقّ، قائما عليه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} [9: الحجر] فالقرآن محفوظ بقدرة اللّه من أن تمتد إليه يد التحريف والتبديل.. فهو نعمة تامّة، أنعم اللّه بها سبحانه وتعالى على هذه الأمة، لتكون منار هدى ورحمة للناس إلى يوم الدّين. أما الكتب السماوية السابقة، فهى نعم من عند اللّه، ابتلى بها من أنعم اللّه عليهم بها، وشأنها في هذا شأن كل نعم اللّه، يخلى اللّه سبحانه وتعالى بينها وبين أهلها، إن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها.
ولهذا، فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى هذه الكتب، أمانة في يد القائمين عليها من أحبار ورهبان.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} [44: المائدة] فهم الموكّلون بحفظ كتبهم التي هى أمانة في أيديهم.. فإن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها، شأنهم في هذا شأنهم في كل أمانة يؤتمن الناس عليها.. وقد ضيع أهل الكتاب هذه الأمانة، فلم يرعوها حقّ رعايتها، بل مكروا بآيات اللّه، فغيّروا وبدّلوا، وألقوا بأهوائهم فيها.. على هذه الصورة الشائهة التي في أيديهم.
وفى قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} إشارة إلى أن مهمّة النبىّ هى إبلاغ هذا الكتاب، والتبشير بما يحمل إلى الذين يؤمنون به من رضوان اللّه، وثوابه العظيم لهم، في الدنيا والآخرة، والإنذار بما يحمل إلى المكذبين، من وعيد بالبلاء والنقمة وسوء المنقلب.! تلك هى وظيفة النبي مع هذا الكتاب الذي أنزله اللّه عليه.. أما حفظه، فقد تولّاه اللّه سبحانه وتعالى.
فليفرغ النبىّ جهده كلّه، إلى إبلاغه للناس!
قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا}.
والواو في قوله تعالى: {وَقُرْآناً} هى واو العطف، وما بعدها معطوف على الآية قبلها.. لتثبت وصفا آخر للقرآن.. فكما أنه نزل بالحق، وبالحق استقرّ وثبت، ولم يلحقه تبديل أو تحريف- هو كذلك نزل قرآنا منجّما، ولم ينزل مرة واحدة.
وفى تنكير {قُرْآناً} تنويه به، ورفع لقدمه، وأنه لتفرده بهذا الوصف، مستغن عن كل تعريف.. إذ كان هو وحده المستأهل لأن يقرأ، وأن يؤثر بالقراءة من كل قارئ.
و{فرقناه} أي نزلناه مفرّقا، ولم ينزل كلّا واحدا، كما نزلت الكتب قبله.. وأصله من الفرق، وهو الفصل بين الشيئين، كما يقول سبحانه وتعالى: {فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [63: الشعراء] أي أن موسى حين ضرب البحر بعصاه انفلق، وانشق، فكان كل فرق، أي جانب، كالجبل العظيم وقد قرىء {فرّقناه} بتشديد الراء.. وهذا يؤيد المعنى الذي أشرنا إليه كما يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ}.
فهذا تعليل للسبب الذي من أجله أنزل اللّه سبحانه وتعالى القرآن على مكث، أي على زمن متطاول، فنزل منجّما، أي مفرّقا في نحو ثلاث وعشرين سنة.
وذلك ليعيش النبىّ والمؤمنون معه، على هذا الزاد الكريم، المختلف الألوان، والطعوم، طوال تلك المدّة التي كان القرآن يتنزل فيها، وهم يرصدون مطلع كلّ آية، ويشهدون بزوغ كل كلمة.. وبهذا ظل النبي والمؤمنون معه خلال هذه السنين الثلاث والعشرين في مقام الانتظار لهذا الضيف العظيم، تطلع عليهم مواكبه موكبا، موكبا، وتلقاهم أضواؤه، شعاعة شعاعة، حتى إذا كان آخر كوكبة في مواكبه، وآخر ضوءة بين السماء والأرض- أذّن مؤذّن الحق:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} وعندها صافح النبىّ هذا الوافد الكريم، في موكبه الحافل، وسناه المشرق، ثم ودّعه، لينتقل هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى، وليقيم القرآن في الناس مقامه، حيث يجتمع عليه المسلمون، ويستقبلون من آياته وكلماته إشارات الهدى، إلى حيث الفلاح والنجاة، في الدنيا والآخرة جميعا.
وفى قوله تعالى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ} وفى تعدية الفعل قرأ بحرف الجرّ {على} {على الناس} بدلا من اللام: للناس.
إشارة إلى علوّ هذا القرآن، وأنه بحيث يشرف عليهم من عليائه، فيملأ وجودهم نورا، وألقا، وبحيث يكشف لهم كلّ خفيّة، إذا هم جعلوا أبصارهم إليه، ووجهوا عقولهم وقلوبهم له.. فلا تعمّى عليهم المسالك، ولا تتفرق بهم السبل، وفى هذا يقول الرسول الكريم «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب اللّه وسنّتى».
وفى قوله تعالى: {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} بيان للأسلوب الذي نزل به القرآن خلال هذا الزمن الذي نزل فيه، وأنه نزّل تنزيلا.. أي نزل شيئا شيئا، وهذا يعنى أن القرآن الكريم وإن تلقّاه النبىّ آية آية، وآيات آيات، وسورة سورة- فإنه في جميع أحواله تلك، هو القرآن الكريم كلّه.. ففى الآية الواحدة، أو الآيات، يعرف القرآن الكريم، ويعرف أنه كلام ربّ العالمين، وأنه المعجزة القاهرة المتحدية، التي تقصر دونها أيدى البلغاء، وتخضع لجلالها رقاب الفحول من الشعراء والخطباء! فالآيات القليلة التي تلقّاها النبىّ في صدر دعوته، كانت صورة مصغرة للقرآن الكريم كله.. بها تحدّى قريشا، وبها أفحمهم وأعجزهم!.
وإذا كان لنا أن نمثّل الصورة التي تنزل بها القرآن، فإنه يمكن أن نرى في القمر وفى مطالعه ومنازله، أقرب صورة له.. حيث القمر هو القمر في جميع مطالعه، وإن لم ينكشف من وجهه، هلالا، ما انكشف منه، بدرا.. إنه في جميع أحواله آية من آيات اللّه، وإن أية لمعة بارقة منه هى إشارة مبينة عنه، ونبأ عظيم يحدّث عن بهائه وجلاله وروعته!.. ومع هذا، فإن العيون الكليلة لا تنبهر به، والقلوب المريضة لا يروعها ما يروع القلوب من هذا الجلال والجمال المطلّ به على الوجود.. تماما كالقرآن الكريم الذي لم تتفتح له قلوب، المستكبرين الضالين، حتى بعد أن تم وكمل، على حين انجذب إليه المهتدون المؤمنون مع أول آية من آياته، ولأول إشارة من إشاراته.
قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}.
فى هذه الآية إشارة إلى أن شأن أولئك المكابرين المعاندين، الذين يقفون من كتاب اللّه هذا الموقف المنحرف، وينظرون إليه هذا المنظر المريض- إشارة إلى أنهم لا يعلون من قدر القرآن شيئا، إذا هم آمنوا به، ولا ينزلون من قدره شيئا، إذا هم أمسكوا أنفسهم على الكفر، وأبوا أن يعترفوا بأنه كلام اللّه، وأن الرسول الذي جاء به هو رسول اللّه.. إنه مائدة اللّه الممدودة بهذا الخير الذي لا ينفد على كثرة الطاعمين منه، ولا يفسد على مر الزمن لقلة الأيدى التي تمتد إليه، وتنال منه.. فالشمس هى الشمس، وإن اكتحلت بضوئها الأبصار، أو عشيت عن ضوئها العيون!!- وفى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}.
.. في هذا إشارتان:
أولاهما: أن هذا القرآن لا يقدره قدره، ولا يعرف فضله، إلا من انتفع بعقله، وأحسن الاستماع إليه، والتلقّى عنه.. وأنّ أصحاب العقل والحجا وأهل العلم والمعرفة، هم أقرب الناس نسبا إلى هذا القرآن- وأكثرهم معرفة به، وأصدقهم نظرا إليه، وعرفانا بقدره وفضله.
وثانيتهما: أن هذا القرآن، قد جعل للعرب عامة، ولأهل مكة خاصة فضل السبق إليه. والوقوف على موارده.. فجاء إليهم بلسان عربى مبين، هو لسانهم الذي به يتعاملون.. ثم هو من جهة أخرى قد سعى إليهم، وحلّ بينهم، دون أن يبذلوا جهدا أو مالا.. فإن هم أحسنوا استقباله، وأخذوا بحظّهم منه، فذلك هو خيرهم المدعوّون إليه، وإن هم أساءوا مقامه فيهم، وغلّوا أيديهم عن تناول قطوفه، والأخذ من ثمره، ارتحل عنهم إلى غيرهم، ونزل عند من يعرف قدره، ويحسن الأخذ عنه.
والقوم الذين يتلفت إليهم القرآن في هذا الموقف، ويؤذن أهل مكة بالتحول عنهم إليهم، هم أهل العلم، من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
فأهل العلم هؤلاء يعرفون قدر هذا القرآن ويعلمون- بما عندهم من علم- أنه كلام اللّه، وأن الرسول الذي يتلوه- هو رسول اللّه.. وأن هذا القرآن إذا يتلى عليهم خشعوا له، وخرّوا على أذقانهم سجّدا بين يدى آياته وكلماته.. كما يقول سبحانه وتعالى في القسيسين والرهبان من النصارى: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [83: المائدة].
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا}.
والذي ينبغى الالتفات إليه هنا، هو أن أهل العلم من أهل الكتاب، هؤلاء الذين إذا يتلى عليهم القرآن {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا} لم يكونوا قد وجهوا بالقرآن بعد، ولم يكونوا قد دعوا إلى الإيمان به.. إذ كانت الدعوة لا تزال تمهدّ الأرض التي تركّز رايتها فيها، وتجعل منها منطلقا لرسالتها في الناس جميعا.. حيث تخيرت الأمة العربية التي نزلت بلسانها، لحمل هذا الشرف العظيم.. ومع هذا، فإن أهل الكتاب- وخاصة أهل العلم منهم- كانوا يرصدون مطلع النبوة، ويشهدون هذا الصراع المحتدم في مكة بين قريش وبين النبىّ الذي ظهر فيهم، وما يتلو عليهم من آيات اللّه.. وكانت تلك الآيات، تطرق أسماع العلماء من أهل الكتاب، فيعرفون وجه الحق فيها، فتخشع لذلك قلوبهم، وتفيض بالدمع عيونهم ويخرّون للأذقان يبكون! وفى هذا الذي يتحدث به القرآن إلى أهل مكّة عن علماء أهل الكتاب، وعن موقع كلمات اللّه وآياته هذا الموقع منهم- في هذا تسفيه لأهل مكة، ولتفّلتهم عن هذا الخير الوارد عليهم، ثم هو من جهة أخرى تحريض لهم على أن يبادروا هذا الخير فيأخذوا حظهم منه، قبل أن يقلت من أيديهم، ويسبقهم إليه أهل الكتاب، وهم الذين كانوا ينفسون على أهل الكتاب هذا العلم الذي جاءتهم به رسل اللّه في هذه الكتب التي في أيديهم، والذين كانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [157: الأنعام].. فها هم أولاء قد أنزل عليهم الكتاب الذي كانوا يتمنّونه، وها هم أولاء يزورّون عن هذا الكتاب، ويزهدون فيه، بل ويرجمونه بأيديهم وألسنتهم.. فهل بعد هذا السّفه سفه؟ وهل مع هذا الغباء غباء!- وفى قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً} إشارة إلى عظم وقع القرآن على قلوبهم، وأنهم إذا تليت عليهم آياته استولت عليهم حال من الخشية والرهبة، فسقطوا مغشيا عليهم، بكيانهم كلّه. وألقوا بثقل أجسامهم على الأرض، ولصقت وجوههم بها.!
قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
هو بيان لحال أخرى من أحوال أهل العلم من أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم القرآن.. فهم لأول الصدمة يخرّون على أذقانهم سجّدا.. ثم هم إذا صحوا من سكرتهم قليلا، وفاء إليهم ما عزب من عقولهم، وجدوا أنفسهم مع آيات اللّه، تطالعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخرّون للأذقان باكين، لما عرفوا من الحق.. فيزدادون خشوعا إلى خشوع، وإيمانا إلى إيمان! فهما إذن حالان للمستمعين إلى آيات اللّه، من أهل العلم هؤلاء.
الحال الأولى، حين تلقاهم آيات اللّه، وتطلع عليهم كلماته لأول وهلة.
فإذاهم بين يديها في حال من الجلال والرهبة، تنعقد معه الألسنة، وتسكن معه الجوارح، وتخمد الأنفاس.. شأنهم في هذا شأن من تبغته آية من آيات اللّه، يرى فيها من الحسن والجمال ما لم تشهده عين، ولم يتصوره خاطر، فيخرّ مغشيا عليه، جلالا ورهبة.
والحال الثانية.. أنه حين يعيشون مع هذه الآيات وقتا ما، ويأنسون إليها، ويزايلهم بعض ما وقع عليهم أول الأمر من سطوة جلالها وجمالها، عندئذ يجدون شيئا من العقل يلقونه بها، وإذا هى لعقولهم أبهى جلالا، وأروع جمالا، مما استقبلته منها أول الأمر مشاعرهم.. وهكذا يلتقى عندهم على كلمات اللّه، منطق العقل، مع بداهة الشعور، فيتأكد لذلك حكم البداهة.. {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}.
فى هذه الآية يعود الخطاب إلى المشركين، بعد أن وقفت بهم الآيتان السابقتان إزاء أهل الكتاب، وأرتهم منهم أنهم يتعاملون مع هذا القرآن الذي لم يدعوا إليه بعد، ويلقونه بهذا الاحتفاء العظيم، على حين أنهم- أي المشركين- يلقون هذا القرآن الذي دعوا إليه، بوجوه منكرة، وقلوب مغلقة، وعقول شاردة.
وفى تجديد الخطاب إليهم، دعوة مجدّدة لهم إلى أن يتدبروا أمرهم هذا الذي هم فيه، وأن يبادروا فيصلحوا موقفهم من القرآن، ويصطلحوا معه، ويلقوه لقاء كريما غير هذا اللقاء الذي كان منهم.. هذا إن كان لهم حاجة في أنفسهم، وفى استنقاذها من الضلال والضياع! وإلا فهم وما اختاروا!- وفى قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} تصحيح لمعتقد المشركين في اللّه.. ذلك أنهم كانوا لا يعرفون عن اللّه إلا أنه اللّه أي الإله الأكبر، الذي يرأس الآلهة الآخرين، الذين يعبدونهم من دونه.. من ملائكة وكواكب، مثّلوها في تلك الأصنام التي نحتوها من أحجار، وسوّوها من خشب، أو ذهب.. كاللات، والعزّى، ومناة، وغيرها.
فاسم اللّه هو عند هؤلاء المشركين، هو العلم الذي يطلقونه على الإله الأكبر.. ليس له عندهم اسم أو صفة أخرى.
ولهذا عجب هؤلاء المشركون حين كانوا يسمعون من النبىّ تلك الأسماء والصفات التي كان يذكرها فيما يذكر القرآن الكريم، من أسماء اللّه وصفاته.
كالرحمن، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم، والحكيم.. وكانوا يقولون:
أإله هو أم آلهة هذا الذي يدعونا محمد إلى الإيمان به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ.. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً} [60: الفرقان].
فكان قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} تصحيحا لمعتقدهم الفاسد في اللّه، وأنه سبحانه وتعالى ليس- كما تصوّروا- ذاتا كدواتهم، أو ذوات معبوداتهم، يطلق عليهم اسم واحد، يستدلّ به عليه، ويتعامل معه به! فاللّه سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال كلها، فأىّ وصف من أوصاف الكمال، هو للّه سبحانه، وهو اسم وصفة معا لذاته.. فاللّه، هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو العليم، وهو السميع، وهو البصير، وهو الخالق، وهو الرازق.. إلى ما يمكن أن تحمل للغة من صفات الكمال والجلال، التي لا يشاركه أحد فيها.
فكل اسم حسن يدعى اللّه به، ويعبد عليه، هو إيمان باللّه، وإقرار بالعبودية له. وذلك بأية لغة، وبأى لسان!- وفى قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} هو بيان للأسلوب القاصد، المستقيم، الذي يدعى اللّه سبحانه وتعالى به، ويعبد عليه، وهو ألا يكون جهرا صارحا بالدعاء، وبالصلاة- وهى دعاء أيضا- ولا هما خافتا به.. وإنما هو وسط بين هذا وذاك.. فالجهر الصارخ، يدخل على الإنسان بشعور حفىّ، بأن اللّه بعيد عنه، لا يسمع إلا إذا نودى نداء عاليا، ولهذا نهى النبىّ أصحابه في بعض أسفاره، وكانوا كلّما علوا شرفا من الأرض رفعوا أصواتهم بالتكبير- نهاهم أن يبالغوا في هذا، وقال: «إنكم لا تدعون ربّا أصمّ».
أما الهمس بالدعاء والمخافتة به، فإنه يعزل صاحبه عن أن يسمع ما يناجى به اللّه، ومن ثمّ فلا يتشكل له من دعائه من المعاني ما يصل شعوره باللّه، ويشدّ عقله وقلبه إليه!.
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}.
بهذه الآية تختم هذه السورة الكريمة.. فيلتقى ختامها مع بدئها، حيث بدأت بتسبيح اللّه وتنزيهه ثم ختمت بحمده وتقديسه.
وكأنّ هذا الحمد هو مما أوجبه استقبال تلك المنّة الكبرى التي منّ اللّه بها على عبده محمد، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
ثم لكأن هذا الحمد أيضا هو بيان لصورة من صور الكمال التي يدعى بها اللّه أو الرحمن، كما جاء الأمر في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى}.
ونرتّل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}، فنجد أننا بين يدى صلاة هى الصورة المثلى للدعاء لذى أمر اللّه سبحانه وتعالى النبىّ الكريم والمؤمنين معه، أن يقيموا دعاءهم عليه في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا}.
ففى هذا الدعاء: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} في هذا الدعاء أكثر من ظاهرة.
فأولا: مضمون الدعاء.. فهو في كلمات قليلة، قد جمع فيها ما تفرق من صور الدّعاء، في مقام الولاء للّه، وإخلاص العبادة والعبودية للّه.. فهو حمد للّه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ هو إقرار بأن اللّه سبحانه المتفرد بالكمال، والمنزّه عن النقص، فلا حاجة له إلى ولد يؤنس وحشته، ويتخذ منه سندا وعضدا، ولا منازع له، ولا شريك معه في هذا الوجود، ولا معين له في القيام على هذا الوجود، والإمساك بنظامه الحافظ له.. فحيث نظر ناظر، فرأى قوة لقوىّ، أو عظمة لعظيم، أو سلطانا لذى سلطان، أو غنى لذى غنى.
أو ما شاكل ذلك مما يكبر في صدور الناس- فاللّه سبحانه وتعالى له القوة كلها، وله العظمة جميعها، وله السلطان المطلق، وله الغنى الشامل، وله الكمال في كل شىء، وإليه أمر كل شىء.. وهذا هو بعض السرّ في أن ختم هذا الدعاء بقوله تعالى: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}.
أي قل: اللّه أكبر، اللّه أكبر.
تكبيرا مطلقا، من غير مقايسة أو مفاضلة.. الكبير في كل مقام.. فهو- سبحانه- الكبير المتعال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وثانيا: الكلمات التي ختم بها هذا الدعاء، قد انتظمت صورتها من حروف، من شأنها أن تمسك من ينطق بها على حال بين الجهر والتخافت، حتى دون أن يكون ذلك عن قصد منه.
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فلو ذهب من يتلو هذه الكلمات أن يجهر بها إلى حيث يبلغ صوته من العلوّ، لأسكت به عند طبقة معينة من الأداء الصوتى، لا يستطيع أن يرتفع فوقه، وذلك لخلوّها من أي حرف من حروف المدّ.. وهى الواو، والألف، والياء.. الأمر الذي يحجز الصوت عن أن يذهب مذهبا فوق حدود الاعتدال.
ومن جهة أخرى، فإن الذي يتلو هذه الكلمات، لو أراد أن يخافت بها، لتفلّتت منه، وحملته حملا على أن ينطق بها، وأن يجريها خارج شفتيه.
وانظر، فإنك تجد أكثر حروف هذه الكلمات من اللامات والميمات والدالات والذالات: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}.
فهناك خمسة عشر لاما وستة ميمات، ودالان، وثلاثة ذالات.
ومخرج حرف اللام من طرف اللسان حيث يضرب في مقدمة الحلق، على حين أن الميم مخرجه من الشفتين، ومخرج الدال والذال من أقصى طرف اللسان، حيث يضرب في الأسنان.
فالحركة الغالبة عند النطق بهذه الكلمات، هى حركة طرف اللسان مع الشفتين، حيث لو أراد الإنسان أن يحرك لسانه بهذه الكلمات من داخل شفتيه، لاضطر اضطرارا إلى أن يفتح شفتيه عند النطق بالميم، ولو أراد أن يزمّ شفتيه عند النطق بالميمات، لوجد هناك ما يقسره قسرا على أن يفتح شفتيه عند الالتقاء بثلاث واوات رصدت له، وأخذت مكانها في مقاطع هذه الكلمات.. والواو حرف لا يتحقق نطقه نطقا صحيحا إلا بحركة الشفتين، حركة تجمعهما، ثم تفرقهما في فتحة أشبه بنصف دائرة! فسبحان من هذا كلامه! سبحانه! سبحانه!!

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7